قراءات في قاموس الصداقة
( حقيقة الصداقة بين الواقع والمثال )
عندما قال القدماء أن المستحيلات ثلاثة " الغول والعنقاء والخل الوفي " ، فهل صاغوا بذلك حقيقة ثابتة من حقائق الحياة ؟ ، فلا شك أن لقولهم ظل من الحقيقة ، فالصداقة الحقيقية تدخل في دائرة الندرة علي أقل تقدير ، إذا جاوزت دائرة المستحيلات كما نصت عبارتهم الأثيرة ، وزاد من صدق تلك الرؤية ما اكتنف زماننا من أثرة وحب للنفس ، والشح بعطائها ، قال تعالي : ( وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } ، في هذا الزمن الموغل في المادية ، وجفاء القلوب ، والتكالب حول المصالح أو حتى أشباه المنافع ، لا نجد مكانا للصداقة بمثالها الكريم ، وكما تهوي القلوب وتريد ، ويذكرني هذا بفلسفة الحكيم عندما سأله رجل : كم عدد أصدقائك ؟ ، فأجاب : لا أدري الآن لأن الدنيا مقبلة علي والناس كلهم أصدقائي ، وإنما أعرف ذلك إذا أدبرت عني ، فخير الأصدقاء من أقبل إذا أدبر الزمان " ، وكأنه يقول قول الشاعر عندما قال لصديقه :
إن لم تكن لي والزمان شر مبرم فلا خير فيك والزمان ترأى لي
والشاعر الآخر يقول : جزي الله الشدائد خيرا عرفت بها عدوي من صديقي
وأخشى ما أخشاه أنه لا يبقي لهذا الشاعر من أصدقاء بعد بلواه
، فالناس اليوم خلان المال ، فهذا شاعر يعبر عن محنته النفسية قائلا :
أري الخلان لما قل مالي وأجحفت النوائب ودعونيلما أن أغنيت وعاد مالي أراهم - لا أبا لك - راجعونيكأن القوم خلان لمالي وإخوان لما خولت دوني
وعلي نفس النسق تحضرني حكاية تصور واقع الصداقة في عصرنا
فقد سأل صديق صديقه :إذا كان لديك ستة قصور ، هل تعطيني قصرا منها ؟فأجاب : بالطبع .فقال له : وإذا كان لديك ست سيارات ، هل تعطيني سيارة منها ؟فأجاب بثقة : أكيد .فسأله : يالك من صديق حقيقي ، وإذا كان لديك ستة قمصان ، هل تعطيني قميصا منها ؟ قال : لا . فأستنكر صاحبه : وكيف تقول لا ؟ لماذا ؟ فأجاب : لأن لدى فعلا ستة قمصان !ولعل للأمر ناحية نفسية من حب النفس وتفضيلها علي الغير ، فالناس يحبون أنفسهم
، فقد أجرت جامعة نيويورك دراسة مفصلة عن المحادثات التليفونية فوجدت أن كلمة " أنا " هي أكثر الكلمات استخداما وقد ترددت 3900 مرة في 500 مكالمة !.، ويرصد أحد الأدباء محنة زماننا في ندرة الصداقة الحقيقية : "
الصداقة والأصدقاء إنما هي نوع من الزخارف ، وآلات الاحتيال والنفاق ، فذهبت الدهاة بالهداة ، ومات أهل الرأفة بكثرة القساة " ، وبعد فكيف يمكن لنا إذن تجاوز تلك المشكلة حول ندرة الصداقات مع حاجتنا الشديدة إليها ؟! ، الرأي عندي يكون باتساع مفهوم الصداقة لتشمل الأشياء والمعاني والكتب والناس ( كما نفعل في قاموس الصداقة ) ، ثم نفهم الصداقة فهما صحيحا وهي العطاء للصديق قبل انتظار الأخذ منه
، فقد سمع ( ابن عطاء ) رجلا يقول :
أنا في طلب صديق منذ ثلاثين سنه فلا أجده فقال له
: لعلك في طلب صديق تأخذ منه شيئا ولو طلبت صديقا تعطيه شيئا لوجدت .فهل يا تري نجد الصديق طبقا لهذا الفهم ؟