انسان عين الفضائل، وعَذْبُ الخُلُقِ والشمائل ، ورفيقُ دربٍ محفوفٍ بلهيب المكارِهِ والإِحَن ، وعبث اللهو والفتن ، وصديقُ مودَّةٍ تعشقُ الأبصار رؤية بَسَمَاتِهِ المتورّدة، والأسماعَ طيش نِكاتِهِ المتناثرة. النفوسُ بحضرته لا تَكَلّ ، وبِمُسامَرَتِهِ تزدري سواه ومنه تَمَلّ . يا من تسلل إلى قلوبنا كَلِصٍّ لطيف فأحببناه برغم سلبِهِ لِدافئ مشاعرنا ، ووهَجِ أحاسيسنا ، فأملى علينا محبته دون اختيار .
عزيزي وبهجة خاطري ، وسمير عزلتي ووحدتي ، منذ زمنٍ ليس بالبعيد وإملاءات الخاطر تدفعني عنوةً لمُهاتفةٍ بريدية ، ترسُمُ أبعاداً أخرى ، وطريقةً مُثلى لتواصل الوجدان قبل الحس ، وحديث المِحْبَرَةِ دون الشفاه ، لأن في ذا مَجلَبَةٌ لِهديرِ الخواطر ، واستدراجٌ لموشحاتٍ من الأحاسيس العاتية . إنه ميدانٌ نعيش فيه على إيقاعِ ما مَرَّ من أريجِ الذكريات وحنظَلِها ، ونتداول زهوَ أيامنا وخائِبِها.. إذ ليست الحياة ما يعيشه أحدُنا ، وإنما هي ما يتذكره ، وكيف يتذكَّرُهُ لِيرويه ؟ يتسائل أحدهم .
وفي خِضَمِّ ما مرّ بنا أيام ، وصال وجال علينا من أحوال ، ارتَأَيتُ صياغة إحدى مواقِفِكَ ظَرافةً وحَرَجاً -في الوقت ذاته- في قالِبٍ قَصَصِيٍّ تحت هذا العنوان : " الحجّام والريالاتُ السبعة " وفي مستهلها أقول :
على طريقةِ القدماء في قَصِّهِم حكايا من سَبَق ، أوعزَ إليّ أبو غالي بأن أُسَجّلَ موقفه مع اثنينِ من أصدقائه في قصّةٍ أُصَدِّرُها بقولِهِ : "يحكى أن حجاماً" . هكذا على سبيل التنكيرِ لا التعريف ، غير أني أُفضّلُ إثبات وقائع الأيام والمواقف بِدَقِيقِها وجلِيلِها وبِشُخوصِ أصحابها كلما حانت الفرصة أو دعا إلى ذلك داعٍ .
استجبتُ لإيعازِهِ بادئ ذي بدء ، لكن حوادث الأيام أنسَت بعضها بعضاً ، حتى وجدتني للتو وبعد مرور سنتين على التقريب أباشِرُ مهمة قصة الحجام عندما لمع الخاطرُ بذكرها ، فتحركتُ على وجه السرعة لأنسُجَ خيوطها قبل أن تُبعثرها رياح النسيان من جديد .
في إحدى مجالس السَّمَر، وما اصطلحنا على تسميتها بـ"الثلوثية" أطلّ أبو غالي علينا وهو في حالةٍ مزاجيّةٍ متعكرة ، لم يستطع معها إخفاءُ تَذَمُّرِه ، بل إنه يُبديهِ دون وازع ، وأيُّ وازعٍ هذا الذي يثنيه عن الوصول إلى مشاربِ الحقيقة ، إلى إثباتِ موقفه وصفاء نيته في عملِ أكد من البداية أنه ما بناه إلاّ على الخيريّة ، وما تاق إليه وسبرَ أغوارَهُ إلاّ لِينال من وراءه أجر الآخرةِ وحسب .
لكنّ أحداً ما كان مُصرّاً على مكافأَتِهِ ، ومُصِرّاً على مُجازفةٍ حمقاء ، على تعريضِ نفسه للسخرية ، ولِمَدَدٍ من السَّفَهِ الذي كان يجدرُ به تفاديه .
طَلَبا منه بدايةً أن يضربَ لهما موعداً لإجراء عملية الحجامة ففعل ، وعلى الأثر فاوضه أحدُهُما على مِقدارِ ما يُدفَعُ من الأجرة . لكنه أكد بما لا يدعُ مجالاً للشك بأنه لم يأخذ من وراء هذا العمل مالا يُذكر . أضِف إلى ذلك أن مصطلح النقود ليس له وجودٌ في قاموس الصداقة . لِيَحمِلَ أبو غالي إصرارهم على دفع النقود على أنه نوعٌ من السذاجة لا مبرر لها .
فُضّت جلسةُ المفاوضةِ هذه على تأكيدِ الموعد دون البتِّ في مهزلة النقود . يومٌ أو يومان أو أكثر من ذلك أو أقل حتى كان موعِدُ التقائهم في منزله . رحّبَ بهم كعادته وأمَدّهم بكلاسيكيّاتِ ضيافته من القهوة والشاي ريثما يُنهي عمليته . غايةُ القول : أن صاحبنا لم يتنائى إلى مُخَيِّلَتِهِ بأن ثَمَّةَ إصرارٍ من جانب صديقيهِ على دفع الأجرة سيتم على هذا النحو ، حين اغتنما فرصة خروجِهِ من مجلسِهِم لأمرٍ ما ، فقام أحدهُما بإخفاءِ سبعةِ ريالاتٍ بالتمام والكمال وسط أحدِ كُتُبِهِ المرصوفة على رفوف المكتبة. ذلك أنهما كانا يَرَيانِ أنها الطريقة المُثلى لقبول الأجرة لقاء ما قدَّمَه إليهما من جميل ، لِيُخبِراهُ بعد مغادرتِهِما بطريقةٍ ما بمكان وجود ما تركاه له من المال .
- قد أسميتها نوبةٌ من شدّةِ التعجب، أصابته حيال هذا الإصرار ، وحيال بناء سورٍ من الرسميات في غير مكانه وزمانه .
- "تبادر إلى خاطري عطفاً على هذا الإصرار أن حجمَ ما تركاه من المال سيصل إلى 150 ريالاً في أقل الأحوال" : يقول أبو غالي .
- صفعةٌ ليست ككل الصَّفَعات امتازت بِعريضِ إهانةٍ غير مسبوقة . "هل أنا شحّاذ؟" يتساءل أبو غالي .
- لم أرَ "الغول" يوماً يتحدث بهذه الطريقةِ الموحِشة ، بِلُغَةِ الرغبةِ في الانتقام ، وشيءٍ من الخروج عن إطارِ العقل ، لِيَشُنّ حملةَ تسفيهٍ وتوبيخ أرْسَت دعائمَ الضغينة وفتحت باباً من الكره تجاه صديقيهِ لم يَكَد يوصَدُ إلا على إثرِ تعاقب الأيام وتراكم الآلام والأحلام مصداقاً للمثل القائل : كلامُ الليل يمحوهُ النهارُ .
الجديرُ بالذكر أنني لم أسألِ الغول يوماً عما فعله بتلك الريالات السبعة ، هل استمتع بها أم جعل منها صدقةً علّها أن تُكَفِّرَ عنه بعضاً من خطاياه .
على كُلٍّ ، لو كنت مكانه لتركتها على حِلِّها إذ ذاك ، كي تظل علامةً بارزة وشاهِدَ عِيانٍ على قصتها إذا ما سأل عن سبب وجودها بين صفحات الكتابِ سائلٌ ، لأحكي له القصةَ من جديد .
- غفر الله لأبي غالي أينما حلّ وارتحل ، وما حجّمَ واحتجم ، ومتى ما نام واستيقظ ، ورزقه الذريةَ الصالحة الناصحة التي تأخذ عنه الحجامة وتخلُفُه في حسن الصلاة والإمامة .
- سلامُ الله عليك وعلى أبويك وعلى زهرتك الصغيرة ، أعني بها "شيخة" ، وعلى أهل بيتك أجمعين .
- سلامُ الله على كرمِكَ وحُسنِ ضيافتك و "خادِمَتك" !!
- سلامُ الله على "الثلوثية" حين يحتضنها مجلسُك ، ويطيبُ سمرُها على فراشك .
- سلامُ الله على روحِكَ الأليفة وضَحِحاتِكَ المُزعِجة .
- سلامُ الله على أليمِ ذكرياتِك وماضي أيامِك .
- سلامُ الله على هِدايَتِكَ وفضل الله عليك بالإستقامة .
- سلامُ الله على مسجِدِكَ ، نبراسُ الدعوة ومنارُ التقوى .
- سلام الله على حِفظِكَ القرآن وحِفظِ الله لك من شِرارِ الإنس والجان .
- سلام الله على شبابِكَ وعُزُوبِيّتِك وزواجِك .
- سلامُ الله على فقرِكَ وغِناك ، وجوعِك واستغنائك ، وضمئكَ وعَطَشِك ، وصِحَّتِكَ وسَقَمِك ، وغَضَبِكَ ورضاك ، وأفراحِكَ وأتراحِك ، وقوَّتِكَ وضعفِك .
- سلامُ الله على الريالاتِ السبعة ، تلك التي أظهَرَتْكَ في صورةِ مُتَسَوِّل .
- سلام الله على صيامِكَ وقيامِك واعتكافِك ، وشدِّ مِئْزَرِكَ وحلِّهِ في سَنَةٍ خلت
- سلامُ الله على جماعة "ودّع أهلك" وجعل الله دربهم إلى دربك .
- سلامُ الله على صحبِكَ المُبَجّلين ، إخوان الصّفاءِ وخِلاَّنُ الوفاء في مُسامَراتِ يومِ الثُّلاثاءِ لا الاربعاء .
- سلامُ الله على كلّ أرضٍ وَطِئَتْهِا قَدَماكَ في فِعلِ الخير .
- سلام الله على مطبَخِكَ الذي كان مسرحاً لتعذيبِ مُحمّدِ ابنِ عطاء ، حيث أريقَ دمه هناك .
- سلامُ الله على أبي مصعب حين نَعَتَكَ بأصدقِ الأوصاف ، فسماكَ "عجّاجاً" والحالُ كذلك .
- سلامُ الله على أيامِ زواجِكَ الأولى ، تلكَ التي حكيتَ فيها عن نفسك بقوله تعالى {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} ، فكانت ثَمَّةَ مُبالَغةٍ وسوءَ استدلال .
- سلامُ الله على الهيئة ، آمِرَةً بالمعروف ناهيةً عن المنكر ، ما تَعَبَّدتَ واحتَسَبْتَ فيها من عمل.
- سلامُ الله على قبرك الذي لم يُحفر ولحدك الذي يبنى، وكفنِكَ الذ الذي لم يُنسج ، والله المستعان .
أسألُ الله العظيم أن يُديمَ المحبة ...
أخوك المُتَيّم:
أبو همام- 5/10/1427هـ