نسبه:
هو الإمام الذي عرف بإمام دار الهجرة، مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي اليمني.
انتقل جد أبيه - وهو أبو عامر بن عمرو - من اليمن إلى المدينة المنورة بعد غزوة بدر الكبرى، وصاهر بني تميم وحضر المغازي كلها مع رسول اللَّه صَلى اللَّه عَليه وسَلم إلا بدراً، فهو صحابي جليل، رضي اللَّه عنه.
أما أبوه أنس، وجده مالك، فمن التابعين. وأما الإمام مالك وكنيته أبو عبد اللَّه، فمن تابعي التابعين، رضوان اللَّه عليهم.
مولده ونشأته:
اختلف العلماء في السنة التي ولد فيها مالك رضي اللَّه عنه، ولكن الأكثر على أنه ولد سنة ثلاث وتسعين للهجرة في ذي المروة شمال المدينة المنورة، ثم انتقلت الأسرة إلى العقيق ومن العقيق انتقلت الأسرة إلى المدينة المنورة، وبها نشأ الإمام، فرأى آثار الصحابة والتابعين كما رأى قبر النبي صَلى اللَّه عَليه وسَلم فيها فانطبع في نفسه تقديسها مما دعاه أن لا يطأ أديمها بدابة قط. وكان ما عليه أهلها أصلاً من أصول استنباطه.
نشأ الإمام مالك في بيت مجد من بيوت العلم فجده مالك بن أبي عامر كان من كبار التابعين وعلمائهم. وشارك هذا الجد المبارك في مهمة دينية رسمية، وهي مهمة كتابة المصاحف في [ص 14] عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، رضي اللَّه عنه، فكان مالك الجد، ممن كتبوها، في حين لم يكن يندب في ذلك العهد لهذه المهمة إلا أشخاص بارزون.
وكان النضر - أخو الإمام مالك - ملازماً للعلماء، يتلقى عليهم، حتى إن مالكاً حين لازمهم، كان يعرف بأخي النضر، فلما ذاع أمر مالك بين شيوخه، صار يُذكر بأن النضر أخو مالك.
ولقد كانت البيئة العامة للبلد الذي عاش فيه توعز بالعرفان وتنمي المواهب إذ هي مدينة الرسول الأعظم محمد صَلى اللَّه عَليه وسَلم موطن الشرع ومبعث النور ومعقد الحكم الإسلامي الأول ومرجع العلماء في العصر الأموي الأول، حتى إن ابن مسعود كان يُسأل عن الأمر في العراق فيفتي فإذا رجع إلى المدينة ووجد ما يخالفه لا يحط عن راحلته حتى يرجع فيخبر من أفتى.
في ظل هذه البيئة الخاصة والعامة نشأ مالك وحفظ القرآن في صدر حياته، ثم اتجه بعد ذلك إلى حفظ الحديث، وجالس العلماء. ويحكي عن نفسه - رضي اللَّه عنه - فيقول: "إنه استأذن أمه في مجالسة العلماء، فألبسته أحسن الثياب وعممته، ثم قالت له: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه". فجلس بنصيحة أمه إلى ربيعة الرأي وهو حدث صغير.
طلبه للعلم ومنزلته العلمية:
كان الإمام مالك - رضي اللَّه عنه - دؤوباً على طلب العلم وصرف نفسه إليه في جد ونشاط وصبر، يترقب أوقات خروج العلماء من منازلهم إلى المسجد. وقد حدث الإمام مالك عن نفسه فقال: "إنه انقطع إلى ابن هرمز سبع سنين لم يخلطه بغيره" وأنه كان يلازمه من بكرة النهار إلى الليل. وقد رأى فيه ابن هرمز النجابة وتنبأ له بمستقبل زاهر، فقد قال لجاريته يوماً: "من بالباب"؟ فلم تر إلا مالكاً، فقالت: ما ثم إلا ذاك الأشقر، فقال: "أدعيه فذلك عالم الناس".
كما كان مالك رضي اللَّه عنه لا يستجم في وقت تحسن فيه الراحة إن وجد في ذلك الوقت فرصة للطلب لا يجدها في غيره، وقد قال رضي اللَّه عنه: "شهدت العيد، فقلت: هذا يوم يخلو فيه ابن شهاب، فانصرفت من المصلى حتى جلست على بابه فسمعته يقول لجاريته: انظري من بالباب، فسمعتها تقول له: هو ذاك الأشقر مالك. قال: أدخليه. فدخلت، فقال: ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك؟ قلت: لا، قال: هل أكلت شيئاً؟ قلت: لا، قال: أتريد طعاماً، قلت: لا حاجة لي فيه. قال: فما تريد؟ قلت: تحدثني، قال: هات، فأخرجت ألواحي، فحدثني بأربعين حديثاً، فقلت: زدني، قال: حسبك إن كنت رويت هذه الأحاديث فأنت من الحفاظ، [ص 15] قلت: قد رويتها فجذب الألواح من يدي، ثم قال: حدث، فحدثته بها، فردها إلي وقال: قم، أنت من أوعية العلم".
وأخذ الإمام أيضاً عن نافع مولى ابن عمر فانتفع بعلمه كثيراً. ويقول الإمام مالك في ذلك: "كنت آتي نصف النهار وما تظلني شجرة من شمس أتحين خروجهُ. فإذا خرج أدعه ساعة كأني لم أره، ثم أتعرض له فأسلم عليه، حتى إذا دخل، أقول له: كيف قال ابن عمر في كذا وكذا، فيجيبني".
وهكذا نجد أن مالكاً لم يدخر جهداً في طلب العلم كما أنه لم يدخر في سبيلهِ مالاً حتى لقد قال تلميذه ابن القاسم: "أفضى بمالك طلب العلم إلى أننقض سقف بيته فباع خشبه ثم مالت عليه الدنيا من بعد".
ولما نضج فكر مالك رضي اللَّه عنه واستوت رجولته جلس في مجلس رسول اللَّه صَلى اللَّه عَليه وسَلم للدرس والإفتاء، وذلك بعد أن استوثق من رأي شيوخه فيه وإقرارهم بأنه لذلك أهل، ولقد قال رحمه اللَّه: "ما جلست للحديث والفتيا حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني موضع لذلك - ومنهم الزُهري وربيعة -". وكان يردد كلمته الرائعة: "لا خير فيمن يرى نفسه في حال لا يراه الناس لها أهلاً".
وكان الإمام مالك - رضي اللَّه عنه - لا يروي إلا عن الثقات، حتى قال الإمام النسائي: "أمناء اللَّه على علم رسول اللَّه صَلى اللَّه عَليه وسَلم: شعبة بن الحجاج، ومالك بن أنس، ويحيى بن سعيد الفطان".
وقد التزم مالك في دراسة السكينة والوقار والابتعاد عن لغو القول ومالا يحسن بمثله وكان يقول: "من آداب العالم ألا يضحك إلا تبسماً" وما كان ذلك فيه لجفوة في نفسه بل كان يأخذ نفسه بذلك احتراماً للدرس والحديث. قال بعض تلامذته: "كان مالك إذا جلس معنا كأنه واحد منا، يتبسط معنا في الحديث، وهو أشد تواضعاً منا له، فإذا أخذ في الحديث - أي حديث رسول اللَّه صَلى اللَّه عَليه وسَلم - تهيبنا كلامه، وكأنه ما عرفنا ولا عرفناه".
وكان مع أنه النبيل ذو السمت الحسن في عامة أحواله كان في درسه يعطي نفسه عند التحديث عن النبي صَلى اللَّه عَليه وسَلم سمتاً أحسن ومظهراً أروع، فكان إذا تحدث توضأ وتهيأ، ولبس أحسن ثيابه، ولم يكن يجلس على المنصة إلا إذا حدث حديث رسول اللَّه صَلى اللَّه عَليه وسَلم، وكان يوضع عود بالمجلس، فلا يزال يبخر حتى يفرغ الحديث الشريف.
وكان رضي اللَّه عنه يعنى في درسه بأن يجيب عن المسائل الواقعة، ولا يحب أن يسير وراء [ص 16] الفرض والتقدير. وقد سأله سائل عن مسألة فرضية، فقال: "سل عما يكون، ودع ما لم يكن". وسأله آخر عن مسألة أخُرى فلم يجبه فقال له: لم لا تجيبني؟ فقال: "لو سألت عما ينتفع به لأجبتك".
وكان رضي اللَّه عنه يقول: "لا أحب من الكلام إلا ما كان تحته عمل".
وكان رضي اللَّه عنه إذا سُأل عن مسألة لا يعلمها يقول: "لا أدري"، وقد أخذ هذه الكلمة عن شيخه ابن هرمز - رضي اللَّه عنه - فقد حدث عن شيخه فقال: "سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي أن يورِّث العالم جلساءه قول لا أدري، حتى يكون ذلك أصلاً في أيديهم يفزعون إليه. فإذا سُئل أحدهم عما لا يدري، قال لا أدري".
وكان رضي اللَّه عنه يقول: "بلغني أن العلماء يُسألون يوم القيامة عما يُسأل عنه الأنبياء".
كما كان يقول: "العلم آية محكمة أو سنة مبينة ثابتة أو: لا أدري".
وكان من طريقة الإمام مالك في فقهه، أن يقدم القرآن أولاً وقبل كل شيء، ويستعين في فهمه بالحديث والسنة، ولكنه كان - كما ذكرنا - يدقق في رواية الحديث، حتى لا يختلط صحيح بغير صحيح، وهو يعد عمل أهل المدينة حجة، ومصدراً من مصادر الفقه الهامة، وهو يلتزم السنة ولا يفارقها إلى الإفتاء، وكان كثيراً ما يردد البيت التالي:
وخير أمور الدين ما كان سُنة * وشر الأمور المحدثات البدائع
وبعد الكتاب والسنة، كان يأخذ بفتوى الصحابة، رضي اللَّه عنهم، لأنهم هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. وقد شاهدوا الرسول، صَلى اللَّه عَليه وسَلم، وصاحبوه، وسمعوا منه، وأخذوا عنه. كما كان يأخذ بالإجماع، ويقصد به ما اجتمع عليه أهل الفقه والعلم.
وكان الإمام مالك إذا لم يجد نصاً، يأخذ بالقياس، والاستحسان، والعرف وسد الذرائع، والمصالح المرسلة (أي المطلقة غير المقيدة)، ولكنه يشترط في الأخذ بالمصالح المرسلة عدة شروط منها:
-1- ألا تنافي المصلحة أصلاً من أصول الإسلام، ولا دليلاً قطعياً من أدلته.
-2- أن تكون المصلحة مقبولة عند ذوي العقول